نوفل سعيّد : “لا… قيس سعيّد ليس خيارا مخيفا…”

لا… قيس سعيّد ليس خيارا مخيفا…

1- أود أن أقول في مقدمة حديثي الى الذين يرون في الثورة التونسية أوّلا وقبل كلّ شيء ثورة سياسية و ليست الى حد الآن ثورة اجتماعية جذرية بمفهومها الكلاسيكي…أن ثورة 17 ديسمبر التونسية وان حقّقت بعض المكتسبات السياسية فإنها لم تحدث في عمقها الى الآن التغيير السياسي الجوهري المنتظر… اللهم إلا اذا استثنينا بعض النتوءات هنا و هناك من قبيل اصدار العفو التشريعي العام أو حرية التعبير وحرية الاجتماع…التي تبقى في كلّ الأحوال و على الرغم من معاضدتها من قبل مختلف مكونات المجتمع المدني النشطة هشّة و مهددة و ليست في مأمن من عودة الممارسات البوليسية كل ما كانت هذه المكتسبات فاقدة للإسناد المؤسساتي الفعلي. و هذا الاسناد لا يمكن أن يتأتى الاّ من تغيير جذري في احداثيات ممارسة السلطة بما يسمح لهذه الحقوق و الحريات من أن تكون محمية من ديناميكية تصنعها المؤسسات ولا تقلبات وأهواء الأفراد و ميولاتهم وعفوية الأحداث…

2- للتدليل على هشاشة هذه الحقوق و المكتسبات فانّه تكفي الاشارة هنا الى استفادة العديد من القوى المحافظة ابان 2011 من الزخم الديمقراطي التحرري القادم مع ثورة 17 ديسمبر و محاولة الدفع به لا فقط الى مربعات الهوية الماضوية التي سطّرتها في أدبياتها على امتداد سنوات القمع باعتبارها بدائل ناجزة عن استبدادية النظام القائم منذ 1956 بل أيضا الى مربعات الاستبداد السياسي و ان تحت مسميات مختلفة.

3- في نفس هذا السياق كان دستور26 جانفي 2014 وليدا مشوها لتجاذبات الفترة الممتدة بين 2011- 2013 و جاء عاكسا في نفس الآن للتوازنات الجديدة المتولدة عن الصراع المحتدم بين ” الحداثيين” من جهة و “الاسلامويين المحافظين” الذي خرج من رحم ” اعتصام الرحيل”…فكان دستور 2014 عبارة عن آداة و ان سمحت بالفعل بازاحة رئيس الجمهورية عن احتلال المواقع الامامية في إدارة السلطة بحجة القطع مع النظام الرئاسوي المستبد …فانّه لم يفعل سوى أن حوّل مكان الاستبداد من رئاسة الجمهورية ” استبداد الفرد الواحد” الى مجلس نواب الشعب الذي أضحى معه النظام السياسي التونسي أقرب الى النظام المجلسي منه الى النظام البرلماني…كلّ ذلك تحت عنوان أهلية النظام البرلماني و قدرته على تأمين الحرية و الحفاظ عليها.

4- لا يكتمل فهم استبداد الأقليات – الأقليات الحزبية – الذي كرّسه دستور 2014 فقط بالرجوع الى الدستور و لكن أيضا بالرجوع الى نظام الاقتراع : ” نظام النسبية مع أكبر البقايا” الذي جاء ليشرّع لتفتيت الحاضنة البرلمانية للحكومات المتعاقبة و يوقعها في أسر أهواء أقليات حزبية متناثرة خلقت لنفسها صلب البرلمان ميدانا واسعا للمناورة و التحالف و لإدارة السلطة من خلف الستر بعيدا عن لظى مواقع القرار الأمامية. فالنظام الانتخابي الذي كرّسه القانون مقترنا مع طبيعة النظام السياسي الذي كرّسه الدستور يستدعيان معا في النهاية ادارة للسلطة بالاعتماد على تحالفات هشّة ومهتزة تنتج في النهاية آداء تنفيذيا ضعيفا تغلب عليه ترضيات قصيرة المدى للحواضن البرلمانية للحكومات على القرارات الجرئية التي تتطلبها مقتضيات الحالة السياسية الحقيقية.

5- أمّا في بعديها الاقتصادي و الاجتماعي فيمكننا بكلّ يسر أن ننتهي الى القول بأنّ ثورة 17 ديسمبر فشلت الى حدّ الآن فشلا ذريعا في تحقيق ما دعت اليه من كرامة وطنية و شغل وقضاء على الفساد و احداث للتوازن بين الجهات…لا لشىء الاّ لأنّه ظهر في مناسبات متعددة أنّ التذرأ الحاصل في البرلمان أنّما خلق الأرضية المناسبة التي التقت و تعانقت في ظلّها خفية الكتل الفاسدة للمال و الأعمال مع العديد من الكتل السياسية محولة البرلمان الى منصة تلتقي فيه المصالح السياسية بمصالح لوبيات المال و الأعمال.

6- يظهر المشهد التونسي أمامنا اليوم في ابعاده الثلاثة : السياسي و الاقتصادي و الاجتماعي مشهدا هشا الى أبعد الحدود…غير قادر على مواجهة التحديات الضخمة التي يفرضها الواقع السياسي و الاقتصادي و الاجتماعي المرير. والحق يقال على امتداد السنوات العشر الأخيرة لم تتوفر لتونس قيادة سياسية جريئة بحثت على مساءلة المنظومة السياسية و اصلاحها بل على العكس من ذلك، ففي الأغلب الأعم سعى كلّ طرف سياسي بقدر جهده و بحسب امكاناته الذاتية ووزنه السياسي الى الاستفادة السياسية من هذا الوضع فضلا عن عدم رغبة جلّ الأطراف المفصحة و المبطنة في الابقاء على العلاقات الاقتصادية و الاجتماعية السائدة فتتالت القرارات و المواقف التي تعكس في الأغلب الأعم ارادة جامحة للاستفادة من مقدرات الدولة -دولة كانت في الماضي القريب عنوان السطوة و الهيمنة و الاستبداد- كلّ ذلك في سبيل اطفاء ظماء سنوات القمع العجاف الى أن آلت الأمور الى ما آلت اليه من ضعف ووهن جعلا من الدولة عبأ على نفسها وقاب قوسين من الانهيار. و بطبيعة الحال أمام سيطرة منطق الاستفادة من المواقع كانت النخبة أعجز من تضطلع بدور قيادي بيداغوجي أدنى ازاء الطبقات الشعبية الواسعة التي سارعت و بأقدار متفاوتة و لكن بشكل محموم الى الاستفادة على طريقتها من مقدرات الدولة بتأجيج نار المطلبية التي كانت في أحيان كثيرة مجحفة و لكن و بالموازاة في اطار غياب تام لثقافة العمل و العطاء. فآلت الأمور الى ما آلت اليه اليوم من ضعف وعجزمفزع للمالية العمومية بالخصوص.

7- مع مرور الوقت تبيّن أن النخبة السياسية الجديدة لم تكن في عمومها النخبة الجديرة بالنهوض و الاستجابة الى التحديات التي فرضتها لحظة 17 ديسمبر 2010 بل على العكس اتّضح أنّها نخبة طفيلية تعيش على مقدرات الدولة الى حد انهاكها بالكلّية و دون كبير التفات الى مشاغل الشعب الواسعة الذي زاد فقره و تهميشه. باختصار شديد بيّنت السنوات العشر الماضية أن الثورة لم تنتج نخبتها القيادية التي تليق بتطلعاتها.

8- أمام الفراغ النخبوي الكبير الذي أحدثته السنوات العشر العجاف برز جيل شبابي جديد في عمومه خالي الوفاض من أيّة مرجعية دينية يعيش نوعا حادا من اللامعيارية الأخلاقية ذو محفزات سلوكية يطغى عليها حب الربح السريع و بأقل مجهود ممكن مع تقديس كبير لشتى أنواع اللذة و ابتعاد كبير عن ثقافة الجهد و العمل . بالإضافة الى ذلك فهو في عمومه في قطيعة شبه كلّية مع النخبة السياسية الطفيلية و لا يتماهى معها بالاطلاق بل تحركه أكثر شتى أنواع التعبئة العمودية التي تجسدها وسائل التواصل الاجتماعي لا المنصات السياسية الرسمية.

9-أمام هذا الفراغ الهائل برزت العديد من البدائل التي يجدر الوقوف عندها :

أ- تعالت أصوات من هنا هناك – أو ما يمكن تسميته بالنخبة المضادة- باحثة على ملء الفراغ السياسي الماثل ولكن لا لتجسيره و ملئه بمضامين وطنية وانّما في حقيقة الأمر و الواقع بمضامين لاوطنية تحن الى لحظة ما قبل 17 ديسمبر و مرتكزة على تأجيج الصراع الهووي و مستفيدة من اخطاء خصومها للتسويق الى خطاب في ظاهره ليبرالي تحرري و لكن في صميمه و جوهره مستبد يسعى الى الارتداد عن تلك المكاسب السياسية القليلة و لكن الهامة التي حققتها ثورة 17 ديسنبر 2017.

ب- نخبة جديدة مضادة برزت ارهاصاتها الأولى في اعتصام القصبة 1 و بالخصوص القصبة 2 ولكن ظلّت في حالة كمون طيلة العشر سنوات الماضية… تنتظر ساعتها…جاءت هذه النخبة الوليدة بخطاب بديل و بتصورات جديدة …جسّدها شعار ” الشعب يريد” وكان انتخاب الرئيس قيس سعيّد…تجسيد لبداية الولادة المؤجلة لهذه النخبة الجديدة… و من هنا يظهر شعار الشعب يريد …كشعار يؤسس لبديل وطني ممكن قادر على أن يكون المنطلق لملء الفراغ الذي صنعته النخبة الهجينة على امتداد العشر سنوات الماضية… فالجواب الذي يستدعيه هذا الشعار بصفة طبيعية …هو ماذا يريد الشعب?… من هذه الوجهة تمثل الاجابة على هذا السؤال الوجه المضموني و الوطني الممكن الذي ، في اعتقادي، يجب معاضدته بما يسمح بملء الفراغ السحيق الذي يفصل بين الشعب و النخبة السياسية الطفيلية الذي زاد في الاتساع سنة بعد سنة… انّ الانتهازية لا يمكنها أن تملا الفراغات التي صنعتها بل لن تفعل سوى أن تزيد في تعميقها و لا يمكن التعويل عليها لصنع بدائل و طنية… بل انّ المواصلة و المثابرة على الخط الانتهازي لا يمكن الاّ أن يفتح الأبواب على مصراعيها أمام أعداء الثورة لقبرها و قبر مكتسباتها الهشة خصوصا وأنّه ليست هناك دعائم اقتصادية ماثلة بإمكانها أن تدعم هذه المكتسبات و تسندها . فالفراغ لا يجلب الّا الفراغ…و هناك من يعشق و يتلذذ بالفراغ…و صناعة الفراغ وحدها ، ان تواصلت هي التي ستأتي على الدولة بالكامل…

10- ان تدعيم الخيار الوطني الذي يقوده الرئيس قيس سعيّد و تطويره من قبل الوطنيين من مشاربهم الفكرية المختلفة ،يمثل ، في اعتقادي، فرصة تاريخية مهمة لتدعيم الخيار الوطني من داخل الدولة ( و كونه من داخل الدولة فهو أمر على غاية من الأهمية) و تثبيته في وجه أعداء الثورة و مكتسباتها. أمّا المضي في ترذيل الرئيس فهو ،في رأيي ،عين العبثية و العدمية و تجسيد لغياب البصيرة و هو في كلّ الحالات لن يزيد الاّ في تشتيت الخيار الوطني و بعثرة اوراقه لصالح قوى الردّة. بعيدا عن كلّ شوفينية و شخصنة…المطلوب اليوم و بكلّ سرعة تعديل البوصلة و تحديد على أي ارض نقف….ان وقت المغانم الجزئية و المكاسب الحينية… قد نفذ…والمواصلة في البحث المحموم لقطف هذه المغانم و جنيها هو فضلا عن كونه عين العبثية فهو لن يعدو أن يكون سوى قطعا للغصن الجالسين عليه….

لا… قيس سعيّد ليس خيارا مخيفا…

1- أود أن أقول في مقدمة حديثي الى الذين يرون في الثورة التونسية أوّلا وقبل كلّ شيء…

Publiée par ‎نوفل سعيّد-Naoufel Saied‎ sur Mardi 23 mars 2021